من هم الفلسطينيّون؟ | أرشيف

آثار فلسطينيّة من القرن السابع قبل الميلاد

 

المصدر: «مجلّة الأديب».

الكاتب (ة): معروف الدواليبي. 

زمن النشر: 1 نيسان 1974. 

 


 

خلال استماعي في العام الماضي إلى «إذاعة لندن» العربيّة، استمعت مرّتين، وفي فترتين إلى جواب واحد على سؤال كان قد وجّهه بعض السائلين من أجانب وعرب يسألون فيه: من هم الفلسطينيّون؟ ولقد أجابت الإذاعة على ذلك السؤال حينذاك، وعلى لسان المختصّين في المرّتين، وفي برنامج «السياسة ما بين السائل والمجيب» في ما أذكر، وقالت ما خلاصته:"إنّهم شعب هاجر من مناطق بحر إيجه ومن اليونان بعد أن طردتهم القبائل الإغريقيّة من تلك المناطق، وكانوا يُعْرَفون بالفلسطينيّين، فنزلوا سواحل البحر الأبيض المتوسّط الجنوبيّ، ثمّ اشتقّ اسم «فلسطين» المعروفة حتّى اليوم".

ولقد استنكرت في نفسي هذا الجواب المبتور، لأنّه إنّما عبّر عن فترة ليست الأولى ولا الأخيرة من تاريخ فلسطين والفلسطينيّين، ممّا قد جعل السامع يعتقد أنّ الفلسطينيّين غرباء عن هذه المنطقة الكنعانية العربيّة، وأنّهم لولا حادث هذه الهجرة لما كانت هناك اليوم أخبار عن تاريخ هذا الشعب الفلسطينيّ العربيّ وصلته بهذه الأرض الكنعانية العربيّة قبل حادث هذه الهجرة.

ولقد ذكرت ذلك في حينه لبعض إخواننا من الفلسطينيّين، ورجوته أن يكتب إلى الإذاعة البريطانيّة: القسم العربيّ، بالجواب الصحيح الكامل، وذلك بعد أن زوّدته بالمعلومات التاريخيّة في هذا الموضوع، وبعد أن أحلته على المراجع والدراسات الحديثة الّتي أكملت النقص الّذي وقفت عنده الإذاعة البريطانيّة. ولا شكّ أنّ المجيب على هذا الموضوع في الإذاعة البريطانيّة لم يطّلع بعد على هذه البحوث العلميّة الجديدة، كما أنّ من قد رجوته بالكتابة إلى الإذاعة البريطانيّة لم يستطع الحصول على المراجع الّتي حدّدتها له ولفتُّ نظره إليها.

ولذلك رجاني مرارًا بعض من سمع منّي الحقيقة في هذا الموضوع، أن أكتب كلمة وافية فيه، وخاصّة في هذه الفترة من الزمن الّتي شغلت العالم بمشكلة فلسطين والفلسطينيّين، وها أنا ذا نزولًا عند هذه الرغبة الكريمة أكتب هذه الكلمة الموجزة الوافية بالغرض إن شاء الله، لأُسْهِمَ ببعض الواجب في هذا الموضوع الّذي أصبحت معرفته ضرورة ومن المستلزمات التاريخيّة للتعريف بالقضيّة الفلسطينيّة وبالفلسطينيّين، وذلك بدليل تكرار السؤال عنه إلى الإذاعة البريطانيّة.

وأرجو أن أتمكّن من نشر سلسلة من الكلمات تحت عنوان «كلمات من التاريخ العربيّ الضائع»، وهي كلمات: «الفلسطينيّون»، «الايتروسك»، «البونيّون»، «المور»، «السارازان»، «التيرانيّون»، «البحر النيرانيّ»، و«تيرانة»، وعلاقة هذه الكلمة الأخيرة بجزيرة تيران ومضيق تيران وجبل تيران في الحجاز، وشواطئه من جزيرة العرب.

وها أنا ذا الآن أتابع الكلام حول الكلمة الأولى: «الفلسطينيّون»، ومن حيث ابتدأت الإذاعة ووقفت لأضيف عليها خلاصة ما جدّ من بحوث عظيمة عبّرت عن الحقيقة الّتي لا شكّ فيها.

 

آثار فلسطينيّة من القرن الثاني عشر قبل الميلاد

 

إنّ «الفلسطينيّين» كما ذُكِرَ في البحوث الّتي وقفت عندها الإذاعة البريطانيّة في قسمها العربيّ، هم فرع من هجرة الأقوام «الإيجيّة» أو «المينيّة»، بعد أن قضت القبائل الإغريقيّة الآخيّة على دولة «مينية» في حدود 1200-1100 قبل الميلاد، فنزلوا في ساحل بلاد كنعان الجنوبيّة المعروفة اليوم باسم «فلسطين» اشتقاقًا من اسمهم. وكان هيرودوت المؤرّخ اليونانيّ المعروف بأبي التاريخ، هو أوّل من استعمل هذا الاسم لإطلاقه على تلك الأراضي الساحليّة من بلاد كنعان، بعد أن نزل فيه «الإيجيّون الفلسطينيّون»، وأقاموا فيه خمس مدن هي عسقلان، أشدود، آكرون، جات، غزّة، كما نقلته في كتابي «المدخل إلى التاريخ العامّ للقانون» الطبعة الثانية.

ولم تذكر لنا هذه البحوث الأولى شيئًا عن هويّة هؤلاء الفلسطينيّين، غير أنّ عودتهم إلى هذه المنطقة واستقرارهم فيها دون غيرها، يدلّ على أنّهم إنّما خرجوا من هذه المنطقة ضمن «الهجرات العربيّة» القديمة في ما قبل التاريخ الّتي "امتدّت على إفريقيّا الشماليّة والبلقان وإيطاليا وإسبانيا، وعُرِفَتْ بأسماء موجات أقوام البحر الأبيض المتوسّط"، كما صرّحت به المراجع الأثريّة الحديثة. فهم إذن قد عادوا إلى مواطنهم الأصليّة من بلاد كنعان العربيّة، وإنّهم كنعانيّون لا شكّ فيهم. وهذا ما علَّقتُ به على تلك البحوث الّتي نقلتها أوًّلا كما هي، مؤملًا إضافة تلك التعليقات على الطبعة الثالثة مع جميع أدلّتها الّتي تحمل على الجزم بعروبتهم وبأصالتهم في هذه البلاد.

غير أنّني لم أكد أُنْهِي تلك التعليقات الخطّيّة حتّى وصل إلى يديّ كتاب «الايتروسكيّون في مغربنا وفي أصولنا الفرنسيّة»، لمؤلّفه البحّاثة الأثريّ الفرنسيّ هيلير دو باراثون. وإذا بهذا البحّاثة يؤكّد في كتابه ما انتهيت إليه، ويقول أوًّلا إنّ «الايتروسكيّين» هم فرع من الفينيقيّين السوريّين، وأنّ «الفلسطينيّين» هو أحد أسمائهم، ومعنى «الايتروسك» في اللغة المصريّة القديمة هو «بحّارة النيل»، وأنّ معنى «الفلسطينيّين» هو الجنود والمحاربون.

وزاد هذا الباحث على ذلك فقال عن هؤلاء الفينيقيّين السوريّين أنّهم يحملون أسماءً كثيرة مختلفة، وذلك تبعًا لمهنهم أو لعقائدهم، ثمّ أخذ يعدّد هذه الأسماء ومنها «الفلسطينيّون» عملًا بمنتهم الحربيّة.

وإذا رجعنا إلى تاريخ «العمالقة» فإنّنا نجده يحدّد هذه المنطقة وطنًا لهم، ولم يكونوا عمالقة إلّا لبأسهم، ويدلّ عليه ما جاء في القرآن الكريم نقلًا عن لسان اليهود حين أراد النبيّ موسى أن يدخل بهم أرض فلسطين:"قالوا يا موسى إنّ فيها قومًا جبّارين، وإنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها.. إنّا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها" (من سورة المائدة)، وتمرّدوا على موسى من أجل ذلك أربعين سنة كاملة.

وبذلك يتأكّد ما قد وصل إليه البحّاثة الفرنسيّ من أنّ اسم «الفلسطينيّين» هو اسم لفريق من الكنعانيّين اتّخذوا الحرب والجنديّة حرفة لهم، كما يدعم ما قد كنت انتهيت إليه من أنّ عودة الفلسطينيّين من جزر بحر إيجة إلى هذا المكان بالذات يؤكّد أنّهم هم «العمالقة» المعروفون في التاريخ في هذا المكان، وأنّ هذا المكان هو موطنهم الأصليّ المخصّص جزء منه لتدريب الجنود وإقامتهم فيه، ولذلك عادوا إليه، فهم إذن عرب لا شكّ فيهم، وهم كنعانيّون فينيقيّون سوريّون ممّن اتّخذوا الحرب مهنة لهم، وأنّهم بَرَعوا فيها حتّى سُمّوا باسم «العمالقة» من الفينيقيّين، وأنّهم هم القوم «الجبّارون» الّذين عناهم القرآن الكريم.

وبناء على كلّ ذلك نستطيع الآن أن نحدّد معنى كلمة «الفلسطينيّين» وهويّتهم إذا أردنا الدقّة التاريخيّة واللغويّة، وأن نقول إنّها تعني «العمالقة» من أصحاب البأس في الحروب، وأنّ ما توصّل إليه الباحث الفرنسيّ من معنى الكلمة من أنّها تعني «الجنود والمحاربون»، فهي لا تعني بالضبط إلّا «العمالقة» بلغة التاريخ، وإلّا «الجبّارين» بلغة القرآن الكريم. وأنّهم ليسوا هجرة طارئة على البلاد من قبل شعوب مجهولة الأصل، وإنّما هم بلا شكّ من أبناء البلاد العرب الأصليّين ومن الكنعانيّين الفينيقيّين السوريّين اللّذين كانوا يتقدّمون الهجرات كجنود ومحاربين يحمون الأرض الّتي نزلوا فيها، ويدافعون عمّن خرج معهم لمهمّات حيويّة وحضاريّة، كما كان من من شأن الهجرة إلى شبه جزيرة اليونان والبلقان، وكما نصّ على ذلك مؤرّخ اليونان الملقّب بأبي التاريخ هيرودوت في الكتاب الخامس من تاريخه حيث قال فيهم:" والآن نذكر أنّ الفينيقيّين الّذين جاؤوا مع قدموس قد أدخلوا معهم إلى اليونان صناعات كثيرة متنوّعة، ومنها صناعة الكتابة وما زالوا يسمّنها بـ «الفينيقيّة» إنصافًا لمن لقوها إليهم".

وكان معظم اليونان يعتقدون أنّ عناصر كثيرة من حضارتهم قد جاءتهم من مصر وفينيقيّة، وكما تعزو قصصهم نشأة الكثير من المدن اليونانيّة إلى رجال من أمثال قدموس العربيّ الكنعانيّ، ومنها مدينة طيبة «تيبس» أولى المدن الّتي أنشأها لهم الفينيقيّون الكنعانيّون على مثال المدن العربيّة المعروفة باسم «طيبة» في كلّ من مصر وجزيرة العرب، وكما تقول هذه القصص إنّ هؤلاء البنّائين جاؤوا من مصر، ونقلوا الحضارة المصريّة إلى بلاد اليونان عن طريق فينيقيّة وكريت. ولا ننسى في هذا المقام أنّ «الايتروسك»، وهم بحّارة النيل، هم أيضًا من الفينيقيّين، وأنّهم هم الّذين اكتشفوا جزر البحر الأبيض المتوسّط وخاصة جزيرة «اقريطش» وهي كريت اليوم، وأنّه لا تضارب عندئذ بين الأقوال المذكورة في أنّ حضارة اليونان منقولة من مصر وفينيقيّة، وأنّ العنصر الأساسيّ لحماية هذه الهجرات إلى اليونان إنّما كان عنصر «الفلسطينيّين» من العمالقة المحاربين.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.